الصندوق
هناك حيث الشوارع والأزقة الضيقة ،ألواح الزينكو المتعاضدة لتصنع ما يشبه البيوت ...الملابس المرمية على الحبال المشدودة لتجف و الأطفال الذين لا يعرفون شيئا غير اللعب في جماعات .
في ذلك المكان وفي إحدى هذه البيوت كنت أقطن مع إخوتي العشرة ووالديّ وجدتي.
كل شيء كان يبدو عاديا ،والدي ككل الآباء في ذلك الوقت كان عامل بناء داخل الخط الأخضر... وأمي أعيتها تربيتنا...كنا ننام ونستيقظ ونبدل ملابسنا ونذهب للمدرسة...بشكل عادي.
بتفاصيل حياة تتسم بما يشبه الهدوء...إلا هي فنهارها تقضيه أمام صندوق مغلق لا يعرف أحدٌ ما فيه وليلها عبارة عن كلمات ترددها كل ليلة في حلم يبدو انه لا يفارق نومها:"لا تذهب يا أبا محمد.... إنها يافا ...قتلوهم في ساحة العجمي الكبيرة...مروا فوق أجسادهم بالدبابة"و تستيقظ فزعة بعد كلمة "بالدبابة".
كانت كلماتها تدق رأسي بعنف ..لدرجة جعلتني أدأب بإيجاد أسئلة لإجاباتها التائهة .
من هو أبو محمد ؟! ما هي يافا التي لا تغادر خيالها؟! من هم الذين قتلوا بساحة العجمي الكبيرة؟!
كان رأسي الصغير يعج بأسئلة تحتاج الإجابة عليها لحكمة تضاهي سنين عمري السبعة بدستة من السنوات .
"لا بد من المواجهة " تلك النتيجة التي كنت أخلص إليها في كل مرة أعكف فيها على التفكير.
* * *
كانت تفاصيلها تملؤني دفئاً، ثوبها الأبيض ...وشالها المسدول على شعرها الفضي يلخص كل وقار الدنيا وتجاعيد وجهها المحشوة بالألم ،كنت شغوفا جدا بقراءة تفاصيلها العذبة.
- جدتي
- قالت بعدما فاجأها وجودي:"نعم ..يا عيون جدتك."
- ما هي يافا؟
عانقتني وقتها وبكت حتى غسلتني دموعها،ثم قالت بصوت متقطع :" آه يا ولدي كم انتظرك أن تسألني عنها...يافا يا ولدي الجمال والحسن والرقة...يافا أرضك وأرض أجدادك ،يافا فيها كل شيء...كل شيء تجده بمجرد أن تتمناه قبل أن تطلبه حتى ."
زلزلت كياني تلك الإجابة ...هل هناك شيء كهذا في الدنيا؟!
-يا ألله ..لماذا تركتموها إذن...هل يترك أحد الجنة ،ليزج نفسه في النار؟
قالت وقد ضمتني بعنف لدرجة أشعرتني أن عظمي تكسر.
-إياك أن تقل هذا ثانية ،نحن لم نتركها يا ولدي ...نحن غادرناها حتى يهدأ الوضع قليلا ،وسنعود إليها نهاية هذا الأسبوع ...أو الشهر....أو السنة.
- جدتي من هو أبو محمد؟
أبو محمد يا ولدي هو جدك...كان بطلا هو من أوائل من أشعل ثورة العشرين ضد المحتل الإنجليزي... وهو من دعا إلى الإضراب التاريخي الذي عم البلاد كلها في العام السادس والثلاثين بعد التسعمائة وألف....وقد كان مع رفاقه من أوائل من حمل السلاح في منطقة العجمي في الأسبوع الأول من كانون للعام الثامن والأربعين بعد التسعمائة وألف.
ظل يذود عن يافا ويدافع عنها بروحه كان يعشقها،وبعد سقوطها في الخامس عشر من أيار للعام الثامن والأربعين بعد التسعمائة وألف...كانت القوات العربية التي جاءت لنجدتنا أول من انسحب ...بعدها جمع الصهاينة كل من تبقى من أهالي يافا في حي اسمه "حي العجمي" وأمروهم أن يتوجهوا إلى ساحته الكبيرة وهناك كانت المفاجأة.
كان الصهاينة قد قيدوا من اعتقلوهم من المقاومين وصفوهم معصوبي الأعين في وسط الساحة ،كان جدك معهم ...عرفته من قامته فهو أطولهم تقريبا وأكبرهم سننا حيث كان في أوائل الأربعين... وبعد أن تجمع الناس والتفوا حول الشباب المقيدين...انتشر الجنود وتوزعوا حيث وقف وراء كل مقاوم مقيد جندي وأمامه جنديٌ آخر ثم بحركة جماعية واحدة، أطلقوا عليهم النار... ثم مشوا فوق أجسادهم بالدبابة.
فر الناس بعدها فزعين...في تلك الأثناء كان الصهاينة قد جهزوا لهم زوارق في منطقة تقع إلى الشمال من شط الشباب واتجهت بهم نحو غزة...خرجت وأطفالي مع من خرج واستقر بنا الحال هنا... بعد أيام جاءتنا "الأنوروا" ووزعت علينا خيم ودقيق وماء.
لكنا سنعود إليها يا ولدي فالمفاتيح ما تزال معي ووثائق البيت كلها معي...لذا سنعود مهما طال بنا الأمد.
مسحت براحتها ما انهمر على وجهها المتعب من دموع وقالت وهي تتحسس الصندوق :"انظر يا ولدي هنا كل شيء ،هنا تراب من يافا رائحته كالمسك ،وهنا بهذا الصندوق شجيرة برتقال اقتلعتها من الحديقة التي كانت تحيط بالمنزل، آه.. برتقال يافا العذب،ومفاتيح البيت والوثائق كلها هنا..."
"خذ خبئه معك"، قالت وهي تمد يدها بالصندوق نحوي:"لا تخبر عنه أحدا حتى تأخذني إلى يافا عندما تكبر،بيتنا يا ولدي معروف ولا يتوه أحدا بيت من طابقين وراء المدرسة الأرثوذكسية في العجمي،إنها وراء مدرسة الفرير وأنت ذاهب إلى الجبلية إلى اليسار وبعدها بمائتي متر مدرسة الأرثوذكس على اليمين ولها ملعب كبير بعد الملعب يوجد مفرق وفي منتصف الزقاق هناك بيتنا من طابقين أمامه سلم بأربع درجات عدني أن تأخذني إلى هناك".
-أعدك.
وعانقت يدها يدي الصغيرة.
* * *
بالضبط يا جدتي ها هو الزقاق وها هو البيت والأربع درجات ،المدرسة "مدرسة الفرير" نعم ها هي... كان دخولاً سهلاً فالحارس انخدع بزي اليهودي المتدين الذي كنت أرتدييه، لم يطلب حتى تفتيش الصندوق الذي كنت أحلمه،شباب يهود يملئون الساحة...جيد
لكن الصندوق يا جدتي لا يحتوي هذه المرة على تراب يافا أو المفاتيح أو الوثائق.
لا... يحوي وثائق من نوع آخر، وثائق بها ستعود يافا حتما.
جدتي وعدتك قبل عشرين عاما أن آخذك إليها لكن الموت كان أسرع مني إليكِ ، ولكني الآن سأصعد إليك، وستعود إلينا ها هم يتجمعون حولي...جيد...الآن، وتمتم...بسم الله ... ألله أكبر.
آذار 2008